الباب الأول
المقدمة
بسم الله
الرحمن الرحيم
ا. الخلفية
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والفضل
والطول والمنن الجسام، الذي هدانا للإسلام، وأسبغ علينا جزيل نعمه وألطافه العظام،
وأفاض علينا من خزائن ملكه أنواعاً من الإنعام، وكرم الآدميين وفضلهم على غيرهم من
الأنام، وجعل فيهم قادة يدعون بأمره إلى دار السلام، واجتبى من لطف به منهم فجعلهم
من الأماثل والأعلام، فطهرهم من أنواع الكدر ووضر الآثام، وصيرهم بفضله من أولي
النهى والأحلام، ووفقهم للدوام على مراقبته ولزوم طاعته على تكرر السنين والأيام،
واختار من جمعيهم حبيبه وخليله وعبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، فمحا به
عبادة الأصنام، وأدحض به آثار الكفر ومعالم الأنصاب والأزلام، واختصه بالقرآن
العزيز المعجز وجوامع الكلام.
فبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أرسل
به من أصول الديانات والآداب، وفروع الأحكام، وغير ذلك مما يحتاجون إليه على تعاقب
الأحوال والأعوام، صلى الله وسلم عليه وعلى جميع الأنبياء وآل كلٍ وأتباعهم
الكرام، صلوات متضاعفات دائمات بلا انفصام. أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأعظمه وأتمه
وأشمله، وأشهد أن لا إله إلا الله اعتقاداً لربوبيته، وإذعاناً لجلاله وعظمته
وصمديته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى من خليقته، والمختار المجتبى من
بريته، صلى الله عليه وسلم، وزاده شرفاً وفضلاً لديه وكرم.
أما بعد: فإن الاشتغال بالعلم من أفضل
القرب وأجل الطاعات، وأهم أنواع الخير وآكد العبادات، وأولى ما انفقت فيه نفائس
الأوقات، وشمر في إدراكه والتمكن فيه أصحاب الأنفس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به
المسارعون إلى المكرمات، وسارع إلى التحلي به مستبقو الخيرات، وقد تظاهر على ما
ذكرته جمل من آيات القرآن الكريمات، والأحاديث الصحيحة النبوية المشهورات، ولا
ضرورة إلى الأطناب بذكرها هنا لكونها من الواضحات الجليات. وأهم أنواع العلم في
هذه الأزمان الفروع الفقهيات، لافتقار جميع الناس إليها في جميع الحالات، مع أنها
تكاليف محضة فكانت من أهم المهمات. وقد أكثر العلماء من أصحابنا الشافعيين وغيرهم
من العلماء من التصنيف في الفروع من المبسوطات والمختصرات، وأودعوا فيها من
الأحكام والقواعر والأدلة وغيرها من النفائس الجليلات، ما هو معلوم مشهور عند أهل
العنايات.
ثم نرجوا رحمة الله تعالى ورضاه من
الأولى الى الأخرى. وقد نعلم أننا نكون فى آخر الزمان و أن العلم لن يصل الينا إلا
بمواسطة العلماء. فبذلك, كم منا لم نعرفه جيدا سواء كان أصولا فى الدين أو فروعا
فيه حتى نجد مختلفة كثيرة على عملنا المقيد بهما. التعزية جزء من علوم الفقه, يجب
علينا أن نفهمها و نتبعها من الفقهاء الذين يتخذونها من اصل الدين بطريقة الإجتهاد.
وأكثرنا هذه اليوم نتخذ علما من علوم الفقه بعضه فقط لا كله, سواء كان هو من سبب
جهل أو من سبب غفل. لكن اليوم, اكثر الناس غفل عنها كانوا لم يراجعوا الى الكتب
المعتمد, بل يتبعوا عمل من سبقهم بلا نظر الى الدليل النقل والإجتهاد. فبذلك, يفكر
المؤلف على إخراج هذه المقالة مخرجا عن المسألة المذكورة.
ب. الوجهة
1.
إبذال الفهم
الى قريئ عن التعزية أعنى عن معناها, وما حكمها, ومتى الوقت التى يعزى فيها, وحكم
الجلوس لها, وصنع الطعام لأهل الميت ولغيرهم, ثم حكم البكاء و صيغتها.
2.
سراج الأفكار
لكل الناس الذين خرجوا عن الحق بل هم يحبون الى الحق.
3.
حجة لمن لا
يوافق هذه الدليلة.
4.
لابتغآء ورجاء
مرضات الله, لأن إخراج هذه المقالة من امر المعروف ونهي عن المنكر.
الباب الأول
المباحث
ا.تعريفة التعزية
التعزية لغة التصبير لمن أصيب بالتعزية
عليه. وشرعا هي الحمل على الصبر بالوعد بالأجر والتحذير عن الوزر بالجزع و أن يدعو
عبارة أصله والدعاء للميت والمصاب.[1]
وفى لفظ أخر : العزاء بالمد التعزية
وهما الصبر علي ما به من مكروه وعزاه أي صبره وحثه علي الصبر قال الازهري رحمه
الله أصلها التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه.[2]
ويقال ايضا التعزية هو الحمل على الصبر
بوعد الاجر والدعاء للميت والمصاب. فبذالك, يعزى المسلم بقريبه الكافر والدعاء
للحي ويعزى الكافر بقريبه المسلم والدعاء للميت.[3] فمعنى
التعزية الأمر بالصبر والحمل عليه بوعد الأجر والتحذير من الوزر.[4]
وفى بعض النسخ يقال ايضا "التعزية
الامر بالصبر والحمل عليه بوعد الاجر والتحذير عن الوزر بالجزع والدعاء للميت
بالغفرة وللمصاب بجبر المصيبة"[5]
ب. الدليل على التعزية
إنه صلى الله عليه وسلّم مر على امرأة
تبكي على صبي لها فقال لها اتقى الله واصبري ثم قال إنما الصبر أي الكامل عند
الصدمة الأولى رواه الشيخان.
ولما رواه ابن ماجه والبيهقي بإسناد
حسن ما من مسلم يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه
الله من حلل الكرامة يوم القيامة[6]
قال الربيع أخبرنا الشافعي قال أخبرنا
القاسم بن عبد الله بن عمر عن جعفر أبن محمد عن أبيه عن جده قال لما توفى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول " إن في الله عزاء
من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فأرجوا فإن
المصاب من حرم الثواب.[7]
ت. حكم التعزية
حكمها : هي سنة لما روى عن أسامة رضي
الله عنه قال: {أرسلت إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوه وتخبره أن
ابنا لها في الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرسول: ارجع إليها فأخبرها
أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء ما عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب}[8] التعزية
سنة روى أنه صلي الله عليه وسلم قال من عزى مصابا فله مثل اجره. و فى بعض النسخ,
والتعزية لأهل الميت صغِيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم سنة في الجملة مؤكدة لما رواه
ابن ماجه والبيهقيّ بإسناد حسن { ما من مسلم يعزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من
حلل الكرامة يوم القيامة }[9]
(خاتمة) نسأل الله حسن الختام - تسن
تعزية المصاب، لما أخرجه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله
(ص): من عزى مصابا فله مثل أجره. وأخرج الترمذي أيضا عن أبي برزة: من عزى ثكلى كسي
بردا.
وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن عمرو بن
حزم: ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عزوجل من حلل الكرامة يوم
القيامة.
قوله ( يعزي
أخاه )
أي يأمره
بالصبر عليها بنحو أعظم الله أجرك ( من حلل الكرامة
) أي
من الحال الدالة على الكرامة عنده أو من حلل أهل الكرامة وهي حلل نسجت من الكرامة
وهذا مبني على تجسيم المعاني وهو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى وفي الزوائد في
إسناده قيس أبو عمارة ذكره ابن حبان في الثقات وقال الذهبي في الكاشف ثقة وقال
البخاري فيه نظر وباقي رجاله على شرط مسلم[10]
وقد أرسل الامام الشافعي - رضي الله
عنه - إلى بعض أصحابه يعزيه في ابن له قد مات بقوله: إني معزيك لا إني على ثقة * *
من الخلود، ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد ميته * * ولا المعزي ولو عاشا إلى
حين والتعزية: هي الامر بالصبر، والحمل عليه بوعد الاجر، والتحذير من الوزر
بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة وللحي بجبر المصيبة[11]
وفى الكتب : والتعزية لأهل الميت
صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم سنة في الجملة مؤكدة لما صح من { أنه صلى الله عليه
وسلم مر على امرأة تبكي على صبِي لها ، فقال لها اتقي الله واصبري ، ثم قال : إنما
الصبر أي الكامل عند الصدمة الأولى } ومن قوله { ما من مؤمن يعزِّي أخاه بمصيبته
إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة }[12]
متن الحديث من لفظ البخارى : حدثنا آدم حدثنا شعبة
حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم
بامرأة عند قبر وهي تبكي فقال ( اتقي الله واصبري )[ 1223 ، 1240 ، 6735 ]
[ ش أخرجه مسلم في الجنائز باب في الصبر عند الصدمة
الأولى رقم 926 ( اتقي الله ) بترك الجزع المحبط للأجر ][13]
شرح الحديث : قال الزين بن المنير ما محصله : عبر
بقوله رجل ليوضح أن ذلك لا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وعبر بالقول دون
الموعظة ونحوها لكون ذلك الأمر يقع على القدر المشترك من الوعظ وغيره ، واقتصر على
ذكر الصبر دون التقوى لأنه المتيسر حينئذ المناسب لما هي فيه . قال : وموضع
الترجمة من الفقه جواز مخاطبة الرجال النساء في مثل ذلك بما هو أمر بمعروف أو نهي
عن منكر أو موعظة أو تعزية وأن ذلك لا يختص بعجوز دون شابة لما يترتب عليه من
المصالح الدينية والله أعلم.[14]
ث. وقت التعزية
و هي بعد دفنه أولى منها قبله لاشتغال
أهل الميت بتجهيزه قبله قال في الروضة إلا أن يرى من أهله جزعا شديدا فيختار
تقديمها ليصبرهم وذكر الأولوية من زيادتي ثلاثة أيام تقريبا من الموت الحاضر ومن
القدوم أو بلوغ الخبر لغائب فتكره التعزية بعدها إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب
والغالب سكونه فيها فلا يجدد حزنه.[16]
ومن نظائر عن الوقت الذي يعزى أهل
الميت فيه, كما يقال فى بعض النسخ : وأما وقت التعزية فقال أصحابنا هو من حين
الموت إلى حين الدفن وبعد الدفن إلى ثلاثة أيام قال الشيخ أبو محمد الجويني وهذه
المدة للتقريب لا للتحديد قال أصحابنا وتكره التعزية بعد الثلاثة لان المقصود منها
تسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن هذا هو الصحيح
المعروف وجزم السرخسي في الامالي بانه يعزى قبل الدفن وبعده في رجوعه إلى منزله
ولا يعزى بعد وصوله منزله وحكى امام الحرمين وجها أنه لا أمد للتعزية بل يبقى بعد
ثلاثة أيام وان طال الزمان لان الغرض الدعاء والحمل علي الصبر والنهي عن الجزع
وذلك يحصل مع طول الزمان وبهذا الوجه قطع أبو العباس ابن القاص في التلخيص وانكره
عليه القفال في شرحه وغيره من الاصحاب والمذهب أنه يعزى ولا يعزى بعد ثلاثة وبه
قطع الجمهور قال المتولي وغيره الا إذا كان احدهما غائبا فلم يحضر الا بعد الثلاثة
فانه يعزيه قال اصحابنا وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لكن بعد الدفن أحسن وافضل
لان أهله قبل الدفن مشغولون بتجهيزه ولان وحشتهم بعد دفنه لفراقه اكثر فكان ذلك
الوقت أولي بالتعزية قال اصحابنا الا أن يظهر فيهم جزع ونحوه فيعجل التعزية ليذهب
جزعهم أو يخف.[17]
وفى لفظ أخر يقال عن وقت التعزية : ولا
تعزية بعد ثلاث من الأيام تقريبا أي تكره بعدها إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب
والغالب سكونه فيها فلا يجدد حزنه وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم نهاية الحزن { حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا أيوب بن موسى
قال أخبرني حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة قالت : لما جاء نعي أبي سفيان من
الشأم دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها
وقالت إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول (
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها
تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ) [ ش ( نعي ) خبر موته . ( عارضيها ) جانبا الوجه من
فوق الذقن إلى ما تحت الأذن . ( لغنية ) أي غير محتاجة لذلك ولا راغبة ولكنها
أرادت بيان الحكم الشرعي قولا وعملا ]}[18] حدثنا
إسماعيل حدثني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن حميد بن
نافع عن زينب بنت أبي سلمة أخبرته قالت : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله
عليه و سلم فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ( لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) . ثم
دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست ثم قالت ما لي بالطيب من
حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر ( لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) [ 5024 ،
5030 ][ ش ( فمست ) به شيئا من جسدها ][19]
( باب إحداد المرأة على غير زوجها )
قال ابن بطال : الإحداد بالمهملة
امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان
من دواعي الجماع . وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب
من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد ، وليس ذلك واجبا لاتفاقهم على أن الزوج لو
طالبها بالجماع لم يحل لها منعه من تلك الحال ، وسيأتي في كتاب الطلاق بقية الكلام
على مباحث الإحداد . وقوله في الترجمة " على غير زوجها " يعم كل ميت غير
الزوج سواء كان قريبا أو أجنبيا ، ودلالة الحديث له ظاهرة ، ولم يقيده في الترجمة
بالموت لأنه يختص به عرفا ، ولم يبين حكمه لأن الخبر دل على عدم التحريم في الثلاث
وأقل ما يقتضيه إثبات المشروعية.[20] قوله
: ( فلما كان يوم الثالث ) كذا للأكثر وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وللمستملي
" اليوم الثالث " . قوله ( دعت بصفرة ) سيأتي الكلام عليها قريبا. قوله
: ( نهينا ) رواه أيوب عن ابن سيرين بلفظ " أمرنا بأن لا نحد على هالك فوق
ثلاث " الحديث أخرجه عبد الرزاق ، وللطبراني من طريق قتادة عن ابن سيرين عن
أم عطية قالت " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " فذكره معناه. قوله
: ( أن نحد ) بضم أوله من الرباعي ، ولم يعرف الأصمعي غيره ، وحكى غيره فتح أوله
وضم ثانيه من الثلاثي يقال حدت المرأة وأحدت بمعنى . قوله : ( إلا بزوج ) وفي
رواية الكشميهني " إلا لزوج " باللام ، ووقع في العدد من طريقه بلفظ
" إلا على زوج " والكل بمعنى السببية.[21]
ومن هنا كان ابتداء الثلاث من الموت كما هو ظاهر كلام المصنف كأصله وبه صرح جمع
منهم القاضي أبو الطيب والْبندنيجي وابن الصباغ والماوردي وابن أبي الدم والغزالي
في خلاصته والقول بأنه من الدفن مفرع على أن ابتداء التعزية منه أيضا لا من الموت
كما أفصح به الخوارزمي فقول النووي في مجموعه وغيره.
قال أصحابنا وقتها من الموت إلى الدفن
وبعده بثلاثة أيام مراده به ما قلنا بقرينة قوله بعده قد ذكرنا أن مذهبنا
استحبابها قبل الدفن وبعده ثلاثة أيام وبه قال أحمد انتهى.
والذي قلناه هو قول أحمد كما اقتضاه كلام
المستوعب وغيره للحنابلة وقول المصنف من زيادته لا تحديدا تأكيد إلا لغيبة معز أو
معزى فتبقى التعزية له إلى قدومه قال المحب الطبري والظاهر امتدادها بعده ثلاثة أيام
ويلحق بالغيبة المرض وعدم العلم كما قاله المصنف في شرح الإرشاد.[22]
وغايتها إلى آخر ثلاثة أيام تقريبا
تمضي من وقت الموت لحاضر ومن القدوم لغائب وقيل من وقت دفنه ومثل الغائب المريض
والمحبوس فتكره التعزية بعدها إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه فيها
فلا يجدد حزنه.[23] ( ولها ) أي المرأة ( إحداد على غير زوج ) من الموتى ( ثلاثة أيام
) فما دونها ( وتحرم الزيادة ) عليها ( والله أعلم ) وذلك مأخوذ من حديثي الصحيحين
السابقين ، وقد ذكر هذه المسائل الرافعي في الشرح ، ولم يصرح بحرمة الزيادة[24]
الشرح
قوله : ( أي المرأة ) لا للرجل فيحرم
عليه ولو على نحو زوجته لفقد قوة الصبر في حقه التي طلب الإحداد لها في النساء ،
وجوزه الإمام له ثلاثة أيام ولم يوافقوه عليه .
قوله : ( إحداد ) أي تحزن بغير تغير ملبوس
ونحوه مما يدل على عدم الرضا بل يحرم ، قوله : ( على غير زوج ) ممن يطلب الحزن
عليه ولو أجنبيا بلا ريبة كصديق وعالم وصالح وصهر وسيد ومملوك .
قوله : ( ثلاثة أيام ) قال شيخ شيخنا
عميرة وقد مر التعزية اعتبار الثلاث من الموت ، أو الدفن فينبغي أن يأتي مثل ذلك
هنا راجعه ، وقال بعضهم ينبغي هنا اعتبارها من وقت العلم على قياس الغائب في الموت
قوله : ( وتحرم الزيادة ) أي بقصد الإحداد ، وإلا فلا قوله : ( من الموتى ) قال
الزركشي من الأقارب .
قوله : ( وتحرم الزيادة ) قال الإمام :
لأن في ذلك إظهار عدم الرضا بالقضاء والأليق التلفع بجلباب الصبر ورخص في الثلاث ،
لأن النفوس قد لا تستطيع ذلك فيها ولذا شرعت التعرية فيها ، لأن أعلام الحزن تنكسر
بعدها ، ا هـ .
وقد سلف أن مدة التعزية من الموت -
وقيل من الدفن - فينبغي أن يجيء مثله هنا.[25]
ج. من يعزى من المصاب
والتعزية بالميت وألحق به مصيبة نحو
المال لشمول الخبر الآتي لها أيضا سنة لكل من يأسف عليه كقريب وزوج وصهر وصديق
وسيد ومولى ولو صغيرا.
ويسن أن يعم بها جميع أهل الميت من
صغير وكبير، ورجل وامرأة، إلا شابة وأمرد حسنا، فلا يعزيهما إلا محارمهما،
وزوجهما.
ويكره
ابتداء أجنبي لهما بالتعزية، بل الحرمة أقرب.[26]
نعم الشابة لا يعزيها إلا نحو محرم أي
يكره ذلك كابتدائها بالسلام ويحتمل الحرمة وكلامهم إليها أقرب لأن في التعزية من
الوصلة وخشية الفتنة ما ليس في مجرد السلام أما تعزيتها له فلا شك في حرمتها عليها
كسلامها عليه.[27]
والتعزية لأهل الميت صغيرهم وكبيرهم
ذكرهم وأنثاهم سنة في الجملة مؤكدة لما رواه ابن ماجه والبيهقي بإسناد حسن كما
سبق. نعم الشابة لا يعزيها أجنبي وإنما يعزيها محارمها وزوجها ، وكذا من ألحق بهم
في جواز النظر كما بحثه شيخنا وابن خيران بأنه يستحب التعزية بالمملوك ، بل قال
الزركشي : يستحب أن يعزى بكل من يحصل له عليه وجد كما ذكره الحسن البصري حتى
الزوجة والصديق، وتعبيرهم بالأهل جرى على الغالب، وتندب البداءة بأضعفهم عن حمل
المصيبة، وخرج بقولنا في الجملة تعزية الذمي بذمي فإنها جائزة لا مندوبة.[28]
وبلفظ مستوى : ويسن أن يعزى بكل من
يحصل له عليه وجد كما ذكره اْحسن البصري ، فشمل ذلك الزوج بزوجته والصديق بصديقه
كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى والسيد برقيقه كما صرح به ابن خيران ،
وتعبيرهم بالأهل جرى على الغالب ، بل عموم كلامهم أنه يسن التعزية بالمصيبة يشمل
التعزية بفقد المال ، وإن لم يكن رقيقا وإن كان كلام الفقهاء في التعزية بالميت ،
ولا يعزي الشابة إلا محارمها أو زوجها كما قاله الشيخ ، وكذا من ألحق بهم في جواز
النظر فيما يظهر.
أما تعزيتها للأجنبي فحرام قياسا على
سلامها عليه، واحترزنا بقولنا في الجملة عن تعزية الذمي بمثله فإنها جائزة لا
مندوبة على ما يأتي فيه.[29]
ح. صنع الطعام لأهل الميت
وللناس الذين يعزون أهل الميت
وأن يجعل لهم
أهل رحمهم وجيرانهم طعاما لشغلهم بمصيبتهم عن صنعة الطعام.[30]
واندب لغير أهله القرباء من جيرانهم
ومعارفهم وأقاربه البعداء أن يصلحوا لهم أي : لأهله طعاما مشبعا لهم يومهم وليلتهم
وإن كان الميت بغير بلدهم لخبر[31] {
حدثنا أحمد بن منيع وعلى بن حجر قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد عن
أبيه عن عبد الله بن جعفر قال لما جاء نعى جعفر قال النبى -صلى الله عليه وسلم- «
اصنعوا لأهل جعفر طعاما فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ». قال أبو عيسى هذا حديث حسن.
وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت شىء لشغلهم بالمصيبة. وهو قول
الشافعى. قال أبو عيسى وجعفر بن خالد هو ابن سارة وهو ثقة روى عنه ابن جريج}[32]
ولأنه بر ومعروف وليلححوا بفك الإدغام للوزن أي : ويندب أن يلحوا عليهم في
الأكل منه لئلا يضعفوا بتركه والتصريح بهذا وبكون الطعام مشبعا لهم وكون المهيئ له
غيرهم من زيادة النظم.[33]
وأما تهيئة أهله طعاما للناس فبدعة
مذمومة ذكره في الروضة قال في المجموع ويستدل له بقول جرير بن عبد الله كنا نعد
الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة رواه أحمد وابن ماجه
بإسناد صحيح وليس في رواية ابن ماجه بعد دفنه.[34]
التالى, ويحرم تهيئته لنائحات ؛ لأنه إعانة على معصية.
نقل من حديث ابن ماجه : حدثنا محمد بن
يحيى قال حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم ح وحدثنا شجاع بن مخلد أبو الفضل قال
حدثنا هشيم عن إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن جرير بن عبد الله البجلى
قال كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة[35]
شرح الحديث :
قوله
( كنا نرى ) هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة رضي الله عنهم أو تقرير النبي صلى
الله عليه وسلم وعلى الثاني فحكمة الرفع على التقديرين فهو حجة ( وصنعة ) أي الأهل
وإفراد الضمير لإفراد لفظ الأهل وبالجملة فهذا عكس الوارد إذ الوارد أن يصنع الناس
الطعام لأهل الميت فاجتماع الناس في بيتهم حتى يتكلفوا لأجلهم الطعام قلب لذلك وقد
ذكر كثير من الفقهاء أن الضيافة لأهل الميت قلب للمعقول لأن الضيافة حقا أن تكون
للسرور لا للحزن وفي الزوائد إسناده صحيح رجال الطريق الأول على شرط البخاري
والثاني على شرط مسلم والله أعلم[36]
ويكره لاهل الميت الجلوس للتعزية، وصنع
طعام يجمعون الناس عليه، لما روى أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: كنا نعد
الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة، ويستحب لجيران أهل
الميت - ولو أجانب - ومعارفهم - وإن لم يكونوا جيرانا - وأقاربه الاباعد - وإن
كانوا بغير بلد الميت - أن يصنعوا لاهله طعاما يكفيهم يوما وليلة، وأن يلحوا عليهم
في الاكل. ويحرم صنعه للنائحة، لانه إعانة على معصية. وقد اطلعت على سؤال رفع
لمفاتي مكة المشرفة فيما يفعله أهل الميت من الطعام. وجواب منهم لذلك.
(وصورتهما).
ما قول المفاتي الكرام بالبلد الحرام
دام نفعهم للانام مدى الايام، في العرف الخاص في بلدة لمن بها من الاشخاص أن الشخص
إذا انتقل إلى دار الجزاء، وحضر معارفه وجيرانه العزاء، جرى العرف بأنهم ينتظرون
الطعام، ومن غلبة الحياء على أهل الميت يتكلفون التكلف التام، ويهيئون لهم أطعمة
عديدة، ويحضرونها لهم بالمشقة الشديدة. فهل لو أراد رئيس الحكام - بما له من الرفق
بالرعية، والشفقة على الاهالي - بمنع هذه القضية بالكلية ليعودوا إلى التمسك
بالسنة السنية، المأثورة عن خير البرية وإلى عليه ربه صلاة وسلاما، حيث قال:
اصنعوا لآل جعفر طعاما يثاب على هذا المنع المذكور؟ أفيدوا بالجواب بما هو منقول
ومسطور. (الحمد لله وحده) وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والسالكين
نهجهم بعده. اللهم أسألك الهداية للصواب.
نعم، ما يفعله الناس من الاجتماع عند
أهل الميت وصنع الطعام، من البدع المنكرة التي يثاب على منعها والي الامر، ثبت
الله به قواعد الدين وأيد به الاسلام والمسلمين. قال العلامة أحمد بن حجر في (تحفة
المحتاج لشرحك المنهاج): ويسن لجيران أهله - أي الميت - تهيئة طعام يشبعهم يومهم
وليلتهم، للخبر الصحيح. اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم. ويلح عليهم في
الاكل ندبا، لانهم قد يتركونه حياء، أو لفرط جزع. ويحرم تهيئه للنائحات لانه إعانة على معصية، وما
اعتيد من جعل أهل الميت طعاما ليدعوا الناس إليه، بدعة مكروهة - كإجابتهم لذلك،
لما صح عن جرير رضي الله عنه. كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد
دفنه من النياحة. ووجه عده من النياحة ما فيه من شدة الاهتمام بأمر الحزن. ومن ثم كره
اجتماع أهل الميت ليقصدوا بالعزاء، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، فمن صادفهم
عزاهم. اه.
وفي حاشية العلامة الجمل على شرح
المنهج: ومن البدع المنكرة والمكروه فعلها: ما يفعله الناس من الوحشة والجمع
والاربعين، بل كل ذلك حرام إن كان من مال محجور، أو من ميت عليه دين، أو يترتب
عليه ضرر، أو نحو ذلك. اه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم
لبلال بن الحرث رضي الله عنه: يا بلال من أحيا سنة من سنتي قد أميتت من بعدي، كان
له من الاجر مثل من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئا. ومن ابتدع بدعة ضلالة لا
يرضاها الله ورسوله، كان عليه مثل من عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئا.[37]
متن الحديث من سنن الترمذى : 2893 -
حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا محمد بن عيينة عن مروان بن معاوية الفزارى عن
كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال بن
الحارث « اعلم ». قال ما أعلم يا رسول الله قال « اعلم يا بلال ». قال ما أعلم يا
رسول الله قال « أنه من أحيا سنة من سنتى قد أميتت بعدى فإن له من الأجر مثل من
عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله
ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ». قال أبو
عيسى هذا حديث حسن. ومحمد بن عيينة هو مصيصى شامى وكثير بن عبد الله هو ابن عمرو
بن عوف المزنى.[38]
2894 - حدثنا مسلم بن حاتم الأنصارى
البصرى حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى عن أبيه عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب
قال قال أنس بن مالك قال لى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « يا بنى إن قدرت أن
تصبح وتمسى ليس فى قلبك غش لأحد فافعل ». ثم قال لى « يا بنى وذلك من سنتى ومن
أحيا سنتى فقد أحبنى. ومن أحبنى كان معى فى الجنة ». وفى الحديث قصة طويلة. قال
أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . ومحمد بن عبد الله الأنصارى ثقة وأبوه
ثقة وعلى بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشىء الذى يوقفه غيره. قال وسمعت محمد بن
بشار يقول قال أبو الوليد قال شعبة حدثنا على بن زيد وكان رفاعا ولا نعرف لسعيد بن
المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله. وقد روى عباد بن ميسرة المنقرى هذا
الحديث عن على بن زيد عن أنس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب. قال أبو عيسى وذاكرت
به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا
غيره ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين مات سنة
خمس وتسعين.[39]
شرح الحديث فى تحفة الأحوذى : 2600
- قوله : ( عن عبد الرحمن بن عمرو ) بن عبسة ( السلمي ) الشامي مقبول من الثالثة (
عن العرباض ) بكسر العين المهملة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره معجمة ( بن سارية
) السلمي كنيته أبو نجيح صحابي كان من أهل الصفة ونزل حمص . قوله : ( ذرفت ) أي
دمعت ( ووجلت ) بكسر الجيم أي خافت ( إن هذه موعظة مودع ) بالإصافة فإن المودع
بكسر الدال عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع بفتح الدال أي كأنك تودعنا بها
لما رأى من مبالغته صلى الله عليه وسلم في الموعظة ( فماذا تعهد إلينا ) أي فبأي
شيء توصينا ( وإن عبد حبشي ) أي وإن تأمر عليكم عبد حبشي كما في رواية الأربعين
للنووي أي صار أميرا أدنى الخلق فلا تستنكفوا عن طاعته أو لو استولى عليكم عبد
حبشي فأطيعوه مخافة إثارة الفتن ، ووقع في بعض نسخ أبي داود وإن عبدا حبشيا بالنصب
أي وإن كان المطاع عبدا حبشيا . قال الخطابي يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم
وإن كان عبدا حبشيا ولم يرد بذلك أن يكون الإمام عبدا حبشيا ، وقد ثبت عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال الأئمة من قريش وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح
في الوجود كقوله صلى الله عليه وسلم من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله
له بيتا في الجنة ، وقدر مفحص القطاة لا يكون مسجدا لشخص آدمي ونظائر هذا الكلام
كثيرة ( وإياكم ومحدثات الأمور إلخ ) وفي رواية أبي داود : وإياكم ومحدثات الأمور
فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة . قال الحافظ ابن رجب في كتاب جامع العلوم :
والحكم فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة وأكد ذلك بقوله : كل
بدعة ضلالة ، والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، وأما
ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة فقوله صلى الله
عليه وسلم كل بدعة ضلالة من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول
الدين ، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع
اللغوية لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح نعمت البدعة هذه ،
وروي عنه أنه قال إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة ، ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده
عثمان لحاجة الناس إليه وأقره علي واستمر عمل المسلمين عليه ، وروي عن ابن عمر أنه
قال هو بدعة ولعله أراد ما أراد أبوه في التراويح انتهى ملخصا ( فمن أدرك ذلك ) أي
زمن الاختلاف الكثير ( فعليه بسنتي ) أي فليلزم سنتي ( وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين ) فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي فالإضافة إليهم إما لعملهم بها أو
لاستنباطهم واختيارهم إياها قاله القاري . وقال الشوكاني في الفتح الرباني : إن
أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه أكثرها متعسفة ، والذي
ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدل عليه هذا التركيب بحسب ما
تقتضيه لغة العرب ، فالسنة هي الطريقة فكأنه قال ألزموا طريقتي وطريقة الخلفاء
الراشدين ، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته ، فإنهم أشد الناس حرصا عليها وعملا
بها في كل شيء . وعلى كل حال كانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها
. وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملوا بما
يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر ، وهذا الرأي عند عدم الدليل
هو أيضا من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بما تقضي ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد قال : فبسنة رسول الله قال : فإن
لم تجد قال : أجتهد رأيي قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله أو كما قال . وهذا
الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف فالحق أنه من قسم الحسن لغيره وهو
معمول به وقد أوضحت هذا في بحث مستقل. فإن قلت : إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو
من سنته لم يبق لقوله وسنة الخلفاء الراشدين ثمرة ، قلت : ثمرته أن من الناس من لم
يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم وأدرك زمن الخلفاء الراشدين أو أدرك زمنه وزمن
الخلفاء ولكنه حدث أمر لم يحدث في زمنه ففعله الخلفاء فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة
الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك ويختلج فيها من الظنون .
فأقل فوائد الحديث أن ما يصدر عنهم من الرأي وإن كان من سننه كما تقدم ولكنه أولى
من رأي غيرهم عند عدم الدليل . وبالجملة فكثيرا ما كان صلى الله عليه وسلم ينسب
الفعل أو الترك إليه أو إلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع
نسبته إليه لأنه محل القدرة ومكان الأسوة فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث ولم
أقف عند تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم فإن كان صوابا فمن الله وإن كان
خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم . انتهى كلام الشوكاني . وقد ذكرنا كلام
صاحب سبل السلام في بيان معنى هذا الحديث في باب آذان الجمعة وقال القاري في
المرقاة قيل هم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم
لأنه عليه الصلاة والسلام : قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة وقد انتهى بخلافة علي كرم
الله وجهه . قال بعض المحققين وصف الراشدين بالمهديين لأنه إذا لم يكن مهتديا في
نفسه لم يصلح أن يكون هاديا لغيره لأنه يوقع الخلق في الضلالة من حيث لا يشعر :
وهم الصديق والفاروق وذو النورين وأبو تراب علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين
لأنهم لما كانوا أفضل الصحابة وواظبوا على استمطار الرحمة من الصحابة النبوية
وخصهم الله بالمراتب العلية والمناقب السنية ووطنوا أنفسهم على مشاق الأسفار
ومجاهدة القتال مع الكفار . أنعم الله عليهم بمنصب الخلافة العظمى والتصدي إلى
الرياسة الكبرى لإشاعة أحكام الدين وإعلاء أعلام الشرع المتين رفعا لدرجاتهم
وازديادا لمثوباتهم انتهى ( عضوا ) بفتح العين ( عليها ) أي على السنة ( بالنواجذ
) جمع ناجذة بالذال المعجمة وهي الضرس الأخير ، وقيل هو مرادف السن وقيل هو الناب
. قال الماوردي : إذا تكاملت الأسنان فهي ثنتان وثلاثون منها أربعة ثنايا وهي
أوائل ما يبدو للناظر من مقدم الفم ثم أربع رباعيات ثم أربع أنياب ثم أربع ضواحك
ثم اثنا عشر أضراس وهي الطواحن ثم أربع نواجذ وهي أواخر الأسنان كذا نقله الأبهري
، والصحيح أن الأضراس عشرون شاملة للضواحك والطواحن والنواجذ والله أعلم . والعض
كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها فإن من أراد أن يأخذ شيئا أخذا شديدا يأخذ
بأسنانه أو المحافظة على الوصية بالصبر على مقاساة الشدائد كمن أصابه ألم لا يريد
أن يظهره فيشتد بأسنانه بعضها على بعض.
قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه
أحمد وأبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره
وقال والخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " فخص اثنين وقال فإن لم تجدني
فأتي أبا بكر فخصه ، فإذا قال أحدهم وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى
قوله أولى . والمحدث على قسمين : محدث ليس له أصل إلا الشهرة والعمل بالإرادة فهذا
باطل وما كان على قواعد الأصول أو مردودا إليها فليس ببدعة ولا ضلالة انتهى كلام
المنذري.
قوله : ( حدثنا بذلك الحسن بن علي
الخلال وغير واحد قالوا أخبرنا أبو عاصم عن ثور بن يزيد إلخ ) ورواه ابن ماجه عن
يحيى بن حكيم حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي حدثنا ثور بن يزيد إلخ ( وقد روي
هذا الحديث عن حجر بن حجر إلخ ) وصله أبو داود في سننه وحجر بن حجر هذا بضم الحاء
المهملة وسكون الجيم الكلاعي بفتح الكاف وتخفيف اللام الحمصي مقبول من الثالثة.[40]
2601 - قوله : ( حدثنا عبد الله بن عبد
الرحمن ) هو الدارمي ( أخبرنا محمد بن عيينة ) الفزاري المصيصي مقبول من العاشرة (
عن مروان بن معاوية ) بن الحارث بن أسماء الفزاري أبي عبد الله الكوفي نزيل مكة ثم
دمشق ثقة حافظ وكان يدلس أسماء الشيوخ من الثامنة ( عن جده ) هو عمرو بن عوف
المزني ( قال لبلال بن الحارث ) المزني مدني صحابي كنيته أبو عبد الرحمن مات سنة
ستين وله ثمانون سنة ( اعلم ) أي تنبه وتهيأ لحفظ ما أقول لك ( قال أعلم ) أي أنا
متهيئ لسماع ما تقول وحفظه رضي الله عنه وفي بعض النسخ ما أعلم بزيادة ما
الاستفهامية أي أي شيء أعلم ( من أحيا سنة ) أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل (
من سنتي ) قال الأشرف ظاهر النظم يقتضي أن يقال من سنني لكن الرواية بصيغة الإفراد
انتهى فيكون المراد بها الجنس ( قد أميتت بعدي ) قال ابن الملك أي تركت تلك السنة
عن العمل بها يعني من أحياها من بعدي بالعمل بها أو حث الغير على العمل بها ( من
غير أن ينقص ) متعد ويحتمل اللزوم ( من أجورهم ) من للتبعيض أي من أجور من عمل بها
فأفرد أولا رعاية للفظه وجمع ثانيا لمعناه ( شيئا ) مفعول به أو مفعول مطلق لأنه
حصل له باعتبار الدلالة والإحياء والحق وللعاملين باعتبار الفعل فلم يتواردا على
محل واحد حتى ، يتوهم أن حصول أحدهما ينقص الآخر ( ومن ابتدع بدعة ضلالة ) قال
صاحب الدين الخالص قال في المرقاة قيد به لإخراج البدعة الحسنة وزاد في أشعة
اللمعات لأن فيها مصلحة الدين وتقويته وترويجه انتهى . وأقول هذا غلط فاحش من هذين
القائلين لأن الله ورسوله لا يرضيان بدعة أي بدعة كانت ولو أراد النبي صلى الله
عليه وسلم إخراج الحسنة منها لما قال فيما تقدم من الأحاديث كل بدعة ضلالة وكل
محدثة بدعة وكل ضلالة في النار كما ورد بهذا اللفظ في حديث آخر بل هذا اللفظ ليس
بقيد في الأصل هو إخبار عن الإنكار على البدع وأنها مما لا يرضاه الله ولا رسوله
ويؤيده قوله تعالى : { رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } وأما ظن مصلحة الدين
وتقويته فيها فمن وادي قوله سبحانه : { إن بعض الظن إثم } ولا أدري ما معنى قوله
سبحانه { إن بعض الظن إثم } ولا أدري ما معنى قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } إن كانت تلك المصلحة في ترويج
البدعات يا الله العجب من أمثال هذه القالة لم يعلموا أن في إشاعة البدع إماتة
السنن وفي إماتتها إحياء الدين وعلومه والذي نفسي بيده إن دين الله الإسلام كامل
تام غير ناقص ولا يحتاج إلى شيء في كماله وإتمامه ونصوصه مع أدلة السنة المطهرة
كافية وافية شافية لجميع الحوادث والقضايا إلى يوم القيامة انتهى ما في الدين
الخالص مختصرا . قلت : قوله بدعة ضلالة يروى بالإضافة ويجوز أن ينصب موصوفا وصفة ،
وهذه الصفة ليست للاحتراز عن البدعة الحسنة بل هي صفة كاشفة للبدعة يدل عليه قوله
صلى الله عليه وسلم : " كل بدعة ضلالة " كما في رواية أبي داود عن
العرباض بن سارية رضي الله عنه ( لا يرضاها الله ورسوله ) هذا أيضا صفة كاشفة
بقوله بدعة .
قوله : ( هذا حديث حسن ) وأخرجه ابن
ماجه والحديث ضعيف لضعف كثير بن عبد الله وقد اعترض على تحسين الترمذي لحديثه .
قال المنذري في الترغيب بعد نقل تحسين الترمذي بل كثير بن عبد الله متروك واه ولكن
للحديث شواهد انتهى.[41]
2602 - قوله : ( عن أبيه ) هو عبد الله
بن المثنى بن عبد الله ( عن علي بن زيد ) هو ابن جدعان.
قوله : ( قال لي ) أي وحدي أو مخاطبا
لي من بين أصحابي ( يا بني ) بضم الباء تصغير ابن وهو تصغير لطف ومرحمة ، ويدل على
جواز هذا لمن ليس ابنه ومعناه اللطف وأنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة ( إن قدرت ) أي
استطعت والمراد اجتهد قدر ما تقدر ( أن تصبح وتمسي ) أي تدخل في وقت الصباح
والمساء والمراد جميع الليل والنهار ( ليس في قلبك ) الجملة حال من الفاعل تنازع
فيه الفعلان أي وليس كائنا في قلبك ( غش ) بالكسر ضد النصح الذي هو إرادة الخير
للمنصوح له ( لأحد ) وهو عام للمؤمن والكافر فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه
ويسعى في خلاصه من ورطة الهلاك باليد واللسان والتآلف بما يقدر عليه من المال كذا
ذكر الطيبي ( فافعل ) جزاء كناية عما سبق في الشرط أي افعل نصيحتك ( وذلك ) أي خلو
القلب من الغش قال الطيبي وذلك إشارة إلى أنه رفيع المرتبة أي بعيد التناول ( من
سنتي ) أي طريقتي ( ومن أحيا سنتي ) أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل ( فقد
أحياني ومن أحياني ) كذا في النسخ الحاضرة من الإحياء في المواضع الثلاثة ، وأورد
صاحب المشكاة هذا الحديث نقلا عن الترمذي بلفظ : من أحب سنتي فقد أحبني ومن أحبني
كان معي في الجنة من الإحباب في المواضع الثلاثة فالظاهر أنه قد وقع في بعض نسخ
الترمذي هكذا والله تعالى أعلم ( كان معي في الجنة ) أي معية مقاربة لا معية متحدة
في الدرجة . قال الله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم } الآية ( وفي الحديث قصة طويلة )لم أقف على من أخرج هذا الحديث بالقصة
الطويلة فلينظر من أخرجه بها.
قوله : ( وعلي بن زيد صدوق ) وضعفه غير
واحد من أئمة الحديث ( وكان رفاعا ) بفتح الراء وتشديد الفاء أي كان يرفع الأحاديث
الموقوفة كثيرا ( وقد روى عباد ) بن ميسرة ( المنقري ) بكسر الميم وسكون النون
البصري المعلم لين الحديث عابد من السابعة ( ولا غيره ) بالنصب عطف على هذا الحديث
( ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين إلخ ) مقصود
الترمذي بهذا أن المعاصرة بين أنس وبين سعيد بن المسيب ثابتة فيمكن سماعه منه )[42]
وقال صلى الله عليه وسلّم : إن هذا
الخير خزائن، لتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير، مغلاقا
للشر. وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر، مغلاقا للخير. ولا شك أن منع الناس من هذه
البدعة المنكرة فيه إحياء للسنة، وإماته للبدعة، وفتح لكثير من أبواب الخير، وغلق
لكثير من أبواب الشر، فإن الناس يتكلفون تكلفا كثيرا، يؤدي إلى أن يكون ذلك الصنع
محرما. والله سبحانه وتعالى أعلم. كتبه المرتجي من ربه الغفران: أحمد بن زيني
دحلان - مفتي الشافعية بمكة المحمية - غفر الله له، ولوالديه، ومشايخه، والمسلمين.
(الحمد لله) من ممد الكون أستمد التوفيق والعون. نعم، يثاب والي الامر - ضاعف الله له الاجر، وأيده
بتأييده - على منعهم عن تلك الامور التي هي من البدع المستقبحة عند الجمهور.
قال في (رد المحتار تحت قول الدار
المختار) ما نصه : قال في الفتح: ويستحب لجيران أهل الميت، والاقرباء الاباعد،
تهيئة طعام لهم يشبعهم يومهم وليلتهم، لقوله صلى الله عليه وسلّم : اصنعوا لآل
جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم. حسنه الترمذي، وصححه الحاكم. ولانه بر ومعروف،
ويلح عليهم في الاكل، لان الحزن يمنعهم من ذلك، فيضعفون حينئذ. وقال أيضا:
ويكره الضيافة من الطعام من أهل الميت، لانه شرع في السرور، وهي بدعة. روى الامام
أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل
الميت وصنعهم الطعام من النياحة. اه.
وفي البزاز: ويكره اتخاذ الطعام في
اليوم الاول والثالث وبعد الاسبوع، ونقل الطعام إلى القبر في المواسم إلخ. وتمامه
فيه، فمن شاء فليراجع. والله سبحانه وتعالى أعلم. كتبه خادم الشريعة والمنهاج: عبد الرحمن بن عبد
الله سراج، الحنفي، مفتي مكة المكرمة - كان الله لهما حامدا مصليا مسلما. وقد أجاب
بنظير هذين الجوابين مفتي السادة المالكية، ومفتي السادة الحنابلة.[43]
ومن البدع المكروهة ما يفعل الآن من
ذبح الذبائح عند خروج الميت من البيت أو عند القبر وإعداد الطعام لمن يجتمع
للتعزيه : وتقديمه لهم كما يفعل ذلك في الأفراح ومحافل السرور وإذا كان في الورثة
قاصر عن درجة البلوغ حرم إعداد الطعام وتقديمه[44]
كما تقدم فى حديث.
ويكره أن يصنع أهل الميّت طعاما للنّاس
، لأنّ فيه زيادة على مصيبتهم ، وشغلاً على شغلهم، وتشبّها بأهل الجاهليّة ، لخبر
جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي الله عنه : كنّا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميّت،
وصنيعة الطّعام بعد دفنه من النّياحة.[45]
وأما حديث « اصنعوا لآل جعفر طعاماً
فقد أتاهم ما يشغلهم » ويلحّ عليهم في الأكل ، لأنّ الحزن يمنعهم فيضعفهم ، وبه
قالت المالكيّة ، إلاّ إذا اجتمعوا على محرّم من ندب ولطم ونياحة ، فلا يندب تهيئة
الطّعام لهم.
ويسنّ ذلك عند الحنابلة ثلاثاً لأهل
الميّت لا لمن يجتمع عندهم ، فإنّه يكره لهم ، إلاّ أن يكونوا ضيوفاً.
واتّفق الفقهاء على أنّه تكره الضّيافة
من أهل الميّت لأنّها شرعت في السّرور لا في الشّرور ، وهي بدعة مستقبحة ، وقال
عليه الصلاة والسلام : « لا عقر في الإسلام » وهو الّذي كان يعقر عند القبر من إبل
، أو بقر ، أو شاة.
وصرّح الحنابلة بأنّه يكره الأكل من
طعام أهل الميّت ، فإن كان من تركة وفي مستحقّيها محجور عليه حرّم فعله والأكل منه
، وكره الذّبح والأضحيّة عند القبر ، والأكل منه.
وصرّح الحنابلة والشّافعيّة ، بأنّه
يحرم تهيئة الطّعام لنائحات ، لأنّه إعانة على المعصية ، وصرّح الحنفيّة بأنّه
يكره اتّخاذ الطّعام في أيّام متعارف عليها كاليوم الأوّل ، والثّالث، وبعد
الأسبوع ونقل
الطّعام إلى القبر في المواسم ، واتّخاذ الدّعوة لقراءة القرآن ، وجمع الصّلحاء
والقرّاء للختم، أو لقراءة سورتي الأنعام والإخلاص. لكن أنّه إذا اتّخذ الطّعام
للفقراء كان حسناً. وقال في المعراج : هذه الأفعال كلّها للسّمعة والرّياء ،
فيحترز عنها ، لأنّهم لا يريدون به وجه اللهِ تعالى. وفي غاية المنتهى للحنابلة :
ومن المنكر وضع طعام أو شراب على القبر ليأخذه النّاس.[46]
وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال
إسناده رجال الصحيح قوله : ( اصنعوا لآل جعفر ) في مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت
مما يحتاجون إليه من الطعام لاشتغالهم عن أنفسهم بما دهمهم من المصيبة قال الترمذي
: وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت بشيء لشغلهم بالمصيبة وهو
قول الشافعي انتهى.[47]
إن أهل الميت إذا اشتغلوا بسبب
المصيبة، وانشغلوا عن إصلاح الطعام لهم، فإنه يسن لمن علم بمصيبتهم أن يبعث إليهم
بطعام لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه
ـ: «اصنعوا لأل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم»، وفي قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «فقد أتاهم ما يشغلهم» إشارة إلى أن ذلك ليس مستحباً على سبيل الإطلاق،
ولكنه مستحب إذا كان أهل الميت قد انشغلوا عن إصلاح الطعام، أما إذا كان الأمر
طبيعياً كما هو المعروف في عهدنا الآن فإنه لا يسن أن يبعث إليهم بطعام؛ لأن الحكم
يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال «ابعثوا لأل
جعفر طعام» لم يقل: (فإنه قد مات لهم ميت)، وإنما قال: «فقد أتاهم ما يشغلهم».
وعلى هذا فإذا لم يكن هناك إشغال فإنه ليس هناك طعام، وإذا صنع الطعام وبعث إليهم
وعندهم أحد من أقاربهم فله أن يأكل معهم، وأما أن يدعو الناس إليه، فإن هذا نوع من
النياحة، ولهذا يكره لأهل الميت أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه، وبهذا يعلم
أن ما يصنعه بعض المسلمين من صنع الطعام والشاي ودعوة الناس إليه أن هذا من البدع.[48]
التعزية ليست تهنئة كما يهنأ الإنسان
القادم، التعزية يراد بها أننا إذا رأينا شخصاً مصاباً متأثراً نكلمه بما يهون
عليه المصيبة، هذا هو المقصود منها، فنقول له مثلاً كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم لإحدى بناته: «اصبر واحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل
مسمى». ولا حاجة إلى الاجتماع في البيت فإن الاجتماع في البيت خلاف ما كان عليه
السلف الصالح. حتى قالوا ـ أي السلف الصالح ـ كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت
وصنعة الطعام من النياحة. والنياحة من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لعن النائحة والمستمعة. ولكن إذا سمعنا أن شخصاً من الناس تأثر بموت قريبه أو
صديقه أو ما أشبه ذلك فإننا نحرص على أن نصل إليه. ونقول: اصبر واحتسب. أما مجرد
أن يموت القريب نجتمع ويجتمع الناس, وربما توقد الأنوار، وتصف الكراسي، ويؤتى
بالقراء وما أشبه ذلك فهذا لا يجوز. وكان الناس إلى عهد قريب لا يفعلون هذا
إطلاقاً يموت الميت للإنسان فإذا فرغوا من دفنه ورأوه متأثراً عزوه ورجعوا إلى
أهلهم، ثم من وجده في السوق أو في المسجد عزاه. وأما الاجتماع فلا شك أنه بدعة،
وأنه ينهى عنه، لاسيما إن صحبه ندب بأن تجتمع النساء تقول: والله هذا كان كذا
وكذا، هذا أبو العائلة هذا صاحب البيت، مَن للعائلة, مَن للبيت, وما أشبه ذلك فإنه
يكون من الندب المحرم. وعلى طلبة العلم أن يُبصِّروا الناس قبل أن يتسع الخرق على
الراتق.[49]
الذي ثبت في السنة أن جعفر بن أبي طالب
رضي الله عنه لما استشهد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهله: «اصنعوا لأل جعفر
طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم»، ولكن ليس على هذا الوجه الذي يفعله بعض الناس اليوم؛
حيث تكون الذبائح التي تهدى إلى أهل البيت ذبائح كثيرة، يجتمع عليها الناس كثيراً،
فإن هذا خلاف المشروع؛ ثم إن الانشغال الذي كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
ليس موجوداً الآن ولله الحمد؛ هناك مطاعم كثيرة قريبة، خصوصاً في المدن، فهم ليسوا
في حاجة إلى أن يُهدى لهم الطعام.[50]
أما ما يفعله بعض الناس اليوم من أن
أهل البيت يهيئون مكانا لاجتماع الناس عندهم , ويصنعون الطعام, ويستأجرون المقرئين
لتلاوة القرآن , ويتحملون في ذلك تكاليف مالية , فهذا من المآتم المحرمة المبتدعة
, لما روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله , قال : " كنا نعد الاجتماع إلى
أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة " إسناده ثقات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرئوا ويهدوا له ليس معروفا عند السلف
, وقد كرهه طوائف من أهل العلم من غير وجه " , انتهى.
وقال الطرطوشي : " فأما المآتم ,
فممنوعة بإجماع العلماء , والمأتم هو الاجتماع على المصيبة , وهو بدعة منكرة , لم
ينقل فيه شيء , وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والرابع والسابع
والشهر والسنة , فهو طامة , وإن كان من التركة وفي الورثة محجور عليه أو من لم
يأذن , حرم فعله , وحرم الأكل منه " انتهى.[51]
قوله : ( كنا نعد الاجتماع إلى أهل
الميت إلخ ) يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه ، وأكل الطعام
عندهم نوعا من النياحة لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلهم مع ما هم فيه من شغلة
الخاطر بموت الميت وما فيه من مخالفة السنة ؛ لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت
طعاما فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام لغيرهم قوله : { لا عقر في الإسلام } فيه
دليل على عدم جواز العقر في الإسلام كما كان في الجاهلية قال الخطابي : كان أهل
الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون : نجازيه على فعله ؛ لأنه كان
يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف ، فنحن نعقرها عند قبره حتى تأكلها السباع والطير
فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته قال : ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى
أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبا ، ومن لم يعقر عنده حشر راجلا
انتهى.[52]
خ. الجلوس للتعزية
أما الجلوس للتعزية بأن يجتمع أهل
الميت فيقصدهم من أراد التعزية فمكروه وينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم
عزاهم ولا فرق في كراهة الجلوس لها بين الرجال والنساء . قال الشافعي رحمه الله :
وأكره المآتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء[53]
المأتم في اللغة : مجتمع الرّجال
والنّساء في الغمّ والفرح , ثمّ خصّ به اجتماع النّساء للموت , وقيل: هو للشّوابّ
من النّساء لا غير , والعامّة تخصه بالمصيبة . والمأتم عند الفقهاء هو : اجتماع
النّاس في الموت.[54]
ويكره لأهل الميت الاجتماع بمكان
لتأتيهم الناس للتعزية ، وجلوسه صلّى الله عليه وسلّم لما قتل زيد بن حارثة وجعفر
وابن رواحة رضي الله عنهم يعرف في وجهه الحزن لا نسلّم أنه كان لأجل أن يأتيه
الناس ليعزوه.[55]
الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف
وسائر الاصحاب علي كراهته ونقله الشيخ أبو حامد في التعليق وآخرون عن نص الشافعي
قالوا يعنى بالجلوس لها ان يجتمع اهل الميت في بيت فيقصدهم من اراد التعزية قالوا
بل ينبغى ان ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم ولا فرق بين الرجال والنساء في
كراهة الجلوس لها صرح به المحالي ونقله عن نص الشافعي رحمه الله وهو موجود في الام
قال الشافعي في الام وأكره الماثم وهى الجماعة وان لم يكن لهم بكاء فان ذلك يجدد
الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الاثر هذا لفظه في الام.
وتابعه الاصحاب عليه واستدل له المصنف
وغيره بدليل آخر وهو انه محدث وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها قالت " لما جاء
النبي صلي الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة رضي الله عنهم جلس يعرف
فيه الحزن وانا انظر من شق الباب فاتاه رجل فقال ان نساء جعفر وذكر بكائهن فأمره
ان ينهاهن " رواه البخاري ومسلم.[56] انظروا الى
متن الحديث فى صحيح البخارى باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن.
وشرح الحديث : قوله : ( باب من جلس عند
المصيبة يعرف فيه الحزن )
يعرف مبني للمجهول و " من "
موصولة والضمير لها ، ويحتمل أن يكون لمصدر جلس أي جلوسا يعرف ، ولم يفصح المصنف
بحكم هذه المسألة ولا التي بعدها حيث ترجم " من لم يظهر حزنه عند المصيبة
" لأن كلا منهما قابل للترجيح ، أما الأول فلكونه من فعل النبي صلى الله عليه
وسلم والثاني من تقريره ، وما يباشره بالفعل أرجح غالبا . وأما الثاني فلأنه فعل
أبلغ في الصبر وأزحر للنفس فيرجح ، ويحمل فعله صلى الله عليه وسلم المذكور على
بيان الجواز ويكون فعله في حقه في تلك الحالة أولى . وقال الزين بن المنير ما
ملخصه : موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم فمن
أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح
وغيرها ، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب ، فيقتدى
به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة
تظهر عليه مخايل الحزن ويؤذن بأن المصيبة عظيمة.
- قوله : ( حدثنا عبد الوهاب ) هو ابن
عبد المجيد الثقفي ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري. قوله : ( لما جاء النبي صلى الله
عليه وسلم ) هو بالنصب على المفعولية والفاعل. قوله : ( قتل ابن حارثة )، وهو زيد
، وأبوه بالمهملة والمثلثة ، وجعفر هو ابن أبي طالب ، وابن رواحة هو عبد الله ،
وكان قتلهم في غزوة مؤتة كما تقدم ذكره في رابع باب من كتاب الجنائز ، ووقع تسمية
الثلاثة في رواية النسائي من طريق معاوية بن صالح عن يحيى بن سعد ، وساق مسلم
إسناده دون المتن. قوله : ( جلس ) زاد أبو داود من طريق سليمان بن كثير عن يحيى
" في المسجد ". قوله : ( يعرف فيه الحزن ) قال الطيبي : كأنه كظم الحزن
كظما فظهر منه ما لا بد للجبلة البشرية منه. قوله : ( صائر الباب ) بالمهملة
والتحتانية وقع تفسيره في نفس الحديث شق الباب وهو بفتح الشين المعجمة أي الموضع
الذي ينظر منه ، ولم يرد بكسر المعجمة أي الناحية إذ ليست مرادة هنا قاله ابن
التين . وهذا التفسير الظاهر أنه من قول عائشة ، ويحتمل أن يكون ممن بعدها ، قال
المازري : كذا وقع في الصحيحين هنا " صائر " والصواب صير أي بكسر أوله
وسكون التحتانية وهو الشق ، قال أبو عبيد في غريب الحديث في الكلام على حديث
" من نظر من صير الباب ففقئت عينه فهي هدر " الصير الشق ولم نسمعه إلا
في هذا الحديث ، وقال ابن الجوزي : صائر وصير بمعنى واحد ، وفي كلام الخطابي نحوه
. قوله : ( فأتاه رجل )لم أقف على اسمه وكأنه أبهم عمدا لما وقع في حقه من غض
عائشة منه.
قوله : ( إن نساء جعفر ) أي امرأته وهي
أسماء بنت عميس الخثعمية ومن حضر عندها من أقاربها وأقارب جعفر ومن في معناهن ،
ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء .
قوله : ( وذكر بكاءهن ) كذا في
الصحيحين ، قال الطيبي : هو حال عن المستتر في قوله فقال وحذف خبر إن من القول
المحكي لدلالة الحال عليه ، والمعنى قال الرجل إن نساء جعفر فعلن كذا مما لا ينبغي
من البكاء المشتمل مثلا على النوح انتهى . وقد وقع عند أبي عوانة من طريق سليمان
بن بلال عن يحيى " قد كثر بكاؤهن " فإن لم يكن تصحيفا فلا حذف ولا تقدير
، ويؤيده ما عند ابن حبان من طريق عبد الله بن عمرو عن يحيى بلفظ " قد أكثرن
بكاءهن ".
قوله : ( فذهب ) أي فنهاهن فلم يطعنه .
قوله : ( ثم أتاه الثانية لم يطعنه ) أي
أتى النبي صلى الله عليه وسلم المرة الثانية فقال إنهن لم يطعنه ، ووقع في رواية
أبي عوانة المذكورة " فذكر أنهن لم يطعنه " .
قوله : ( قال والله غلبننا ) في رواية الكشميهني
" لقد غلبننا " .
قوله : ( فزعمت ) أي عائشة وهو مقول
عمرة ، والزعم قد يطلق على القول المحقق وهو المراد هنا
قوله : ( أنه قال ) في الرواية الآتية
بعد أربعة أبواب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " .
قوله : ( فاحث ) بضم المثلثة وبكسرها
يقال حثا يحثو ويحثي .
قوله : ( التراب ) في الرواية الآتية
" من التراب " قال القرطبي : هذا يدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء ،
فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك ، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح
بخلاف الأعين مثلا انتهى . ويحتمل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر ، أو المعنى
أعلمهن أنهن خائبات من الأجر المترتب على الصبر لما أظهرن من الجزع كما يقال
للخائب : لم يحصل في يده إلا التراب ، لكن يبعد هذا الاحتمال قول عائشة الآتي .
وقيل لم يرد بالأمر حقيقته ، قال عياض : هو بمعنى التعجيز ، أي أنهن لا يسكتن إلا
بسد أفواههن ، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب ، فإن أمكنك فافعل . وقال القرطبي :
يحتمل أنهن لم يطعن الناهي لكونه لم يصرح لهن بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن
، فحمل ذلك على أنه مرشد للمصلحة من قبل نفسه ، أو علمن ذلك لكن غلب عليهن شدة
الحزن لحرارة المصيبة . ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح فيكون
النهي للتحريم بدليل أنه كرره وبالغ فيه وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن . ويحتمل أن
يكون بكاء مجردا والنهي للتنزيه ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن
لأنه لا يقر على باطل . ويبعد تمادي الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر
المحرم ، وفائدة نهيهن عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه فيفضي بهن إلى الأمر
المحرم لضعف صبرهن ، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما
يحرم .
قوله : ( فقلت ) هو مقول عائشة .
قوله : ( أرغم الله أنفك ) بالراء
والمعجمة أي ألصقه بالرغام بفتح الراء والمعجمة وهو التراب إهانة وإذلالا ، ودعت
عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي صلى
الله عليه وسلم بكثرة تردده إليه في ذلك .
قوله : ( لم تفعل ) قال الكرماني أي لم
تبلغ النهي ، ونفته وإن كان قد نهى ولم يطعنه لأن نهيه لم يترتب عليه الامتثال
فكأنه لم يفعل ، ويحتمل أن تكون أرادت لم تفعل أي الحثو بالتراب . قلت : لفظة
" لم " يعبر بها عن الماضي ، وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجه فمن أين علمت
أنه لم يفعل ؟ فالظاهر أنها قامت عندها قرينة بأنه لا يفعل فعبرت عنه بلفظ الماضي
مبالغة في نفي ذلك عنه ، وهو مشعر بأن الرجل المذكور كان من ألزام النسوة
المذكورات ، وقد وقع في الرواية الآتية بعد أربعة أبواب " فوالله ما أنت
بفاعل ذلك " وكذا لمسلم وغيره ، فظهر أنه من تصرف الرواة .
قوله : ( من العناء ) بفتح المهملة
والنون والمد أي المشقة والتعب ، وفي رواية لمسلم " من العي " بكسر
المهملة وتشديد التحتانية ، ووقع في رواية العذري " الغي " بفتح المعجمة
بلفظ ضد الرشد. قال عياض : ولا وجه له هنا . وتعقب بأن له وجها ولكن الأول أليق
لموافقته لمعنى العناء التي هي رواية الأكثر ، قال النووي مرادها أن الرجل قاصر عن
القيام بما أمر به من الإنكار والتأديب ، ومع ذلك لم يفصح بعجزه عن ذلك ليرسل غيره
فيستريح من التعب . وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا جواز الجلوس للعزاء بسكينة
ووقار ، وجواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب ، وتأديب من نهي عما لا ينبغي
له فعله إذا لم ينته ، وجواز اليمين لتأكيد الخبر .
( تنبيه ) :
هذا الحديث لم يروه عن عمرة إلا يحيى
بن سعيد ، وقد رواه عن عائشة أيضا القاسم بن محمد أخرجه بن إسحاق في المغازي قال
" حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه " فذكر نحوه . وفيه من الزيادة في
أوله : قالت عائشة وقد نهانا خير الناس عن التكلف. - قوله : ( حدثنا عمرو بن علي )
هو الفلاس ، والكلام على المتن تقدم في
آخر أبواب الوتر ، وشاهد الترجمة منه قوله ما حزن حزنا قط أشد منه ، فإن ذلك يشمل
حالة جلوسه وغيرها.[57]
ويكره الجلوس لها ولا فرق فيها بين ما
قبل الصلاة وبعدها وما قبل الدفن وبعده فيما يرجع إلى اصل الشريعة لكن تأخيرها إلى
ما بعد الدفن حسن لاشتغال اهل الميت قبله بتجهيزه ولاشتداد حزنهم حينئذ بسبب
المفارقة.[58]
وفى لفظ أخر : ( ويكره الجلوس لها ) بأن يجتمع أهل الميت بمكان ليأتِيهم الناس
للتعزية ؛ لأنه محدث ، وهو بدعة ؛ ولأنه يجدد الحزن ويكلف المعزى.[59] السنة
أن يعزى أهل الميت وأقاربه ثم ينصرف كل في حوائجه دون أن يجلس أحد سواء أكان معزى
أو معزيا. وهذا هو هدي السلف الصالح.[60]
ولافرق بين الرجال والنساء في كراهة
الجلوس لها. صرح به المحاملي ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه. وهذه كراهة تنزيه
إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة - كما هو الغالب
منها في العادة - كان ذلك حراما من قبائح المحرمات، فإنه محدث وثبت في الحديث
الصحيح " أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وذهب أحمد وكثير من علماء
الاحناف إلى هذا الرأي.
وذهب المتقدمون من الاحناف إلى أنه لا
بأس بالجلوس في غير المسجد ثلاثة أيام للتعزية، من غير ارتكاب محظور. وما يفعله
بعض الناس اليوم من الاجتماع للتعزية، وإقامة السرادقات، وفرش البسط، وصرف الاموال
الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة من الامور المحدثة والبدع المنكرة التي يجب على
المسلمين اجتنابها، ويحرم عليهم فعلها، لاسيما وأنه يقع فيها كثير مما يخالف هدي
الكتاب ويناقض تعاليم السنة، ويسير وفق عادات الجاهلية، كالتغني بالقرآن وعدم
التزام آداب التلاوة، وترك الانصات والتشاغل عنه بشرب الدخان وغيره.[61] ولم
يقف الامر عند هذا الحد، بل تجاوزه عند كثير من ذوي الاهواء فلم يكتفوا بالايام
الاول: جعلوا يوم الاربعين يوم تجدد لهذه المنكرات وإعادة لهذه البدع. وجعلوا ذكرى
أولى بمناسبة مرور عام على الوفاة وذكرى ثانية، وهكذا مما لا يتفق مع عقل ولانقل.[62]
ويقال أيضا : (واما) الجلوس للتعزية
فنص الشافعي والمصنف وسائر الاصحاب علي كراهته ونقله الشيخ أبو حامد في التعليق
وآخرون عن نص الشافعي قالوا يعنى بالجلوس لها ان يجتمع اهل الميت في بيت فيقصدهم
من اراد التعزية قالوا بل ينبغى ان ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم ولا فرق بين
الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها صرح به المحالي ونقله عن نص الشافعي رحمه الله
وهو موجود في الام قال الشافعي في الام وأكره الماثم وهى الجماعة وان لم يكن لهم
بكاء فان ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الاثر هذا لفظه في الام
وتابعه الاصحاب عليه واستدل له المصنف وغيره بدليل آخر وهو انه محدث وقد ثبت عن
عائشة رضى الله عنها قالت " لما جاء النبي صلي الله عليه وسلم قتل ابن حارثة
الحديث...[63]
ويكره لأهل المصيبة أن يجلسوا لقبول
العزاء سواء أكان في المنزل أم في غيره عند الشافعية والحنابلة وقال الحنفية : إنه
خلاف الأولى وقال المالكية : إنه مباح أما الجلوس على قارعة الطريق وفرش البسط
ونحوها مما اعتاد الناس فعله فهو بدعة منهي عنها وإذا عزي أهل الميت مرة كره
تعزيتهم مرى أخرى باتفاق ثلاثة وقال المالكية : لا تكره تعزيتهم مرة أخرى[64]
د. البكاء للميت
ويجوز البكاء علي الميت من غير ندب ولا
نياحة لما روى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يا ابراهيم
انا لا نغنى عنك من الله شيئا ثم ذرفت عيناه فقال عبد الرحمن ابن عوف يا رسول الله
اتبكي اولم تنه عن البكاء قال لا ولكن نهيت عن النوح " ولا يجوز لطم الخدود
ولا شق الجيوب لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه
وسلم " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعي بدعوى الجاهلية " }[65]
والندب تعديه محاسن الميت مع البكاء
كقولها واجبلاه واسنداه واكريماه ونحوها والنياحة رفع الصوت بالندب قال الشافعي
والاصحاب البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده ولكن قبله أولى لحديث جابر بن
عتيك رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن
ثابت فوجده قد غلب فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله صلي
الله عليه وسلم دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا وما الوجوب يا رسول الله قال
الموت " حديث صحيح رواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي
وغيرهم باسانيد صحيحة ولفظ الشافعي في الام : وأرخص في البكاء قبل الموت فإذ مات
امسكن وقال صاحب الشامل وطائفة يكره البكاء بعد الموت لظاهر الحديث في النهي ولم
يقل الجمهور ويكره وإنما قالوا الاولى تركه قالوا وهو مراد الحديث ولفظ الشافعي
محتمل هذا كله في البكاء بلاندب ولا نياحة أما الندب والنياحة ولطم الخد وشق الجيب
وخمش الوجه ونشر الشعر والدعاء بالويل والثبور فكلها محرمة باتفاق الاصحاب وصرح
الجمهور بالتحريم ووقع في كلام بعضهم لفظ الكراهة وكذا وقع لفظ الكراهة في نص
الشافعي في الام وحملها الاصحاب علي كراهة التحريم وقد نقل جماعة الاجماع في ذلك
قال امام الحرمين رحمه الله ورفع الصوت بافراط في معنى شق الجيب قال غيره هذا إذا
كان مختارا فان كان مغلوبا لم يؤاخذ به لانه غير مكلف وأما قول الشافعي رحمه الله
في الام واكره المآتم وهى الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فمراده الجلوس للتعزية وقد
سبق بيانه.[66] (قال
الشافعي) وأكره النياحة على الميت بعد موته وأن تندبه النائحة على الانفراد لكن
يعزى بما أمر الله عزوجل من الصبر والاسترجاع وأكره المأتم وهى الجماعة وإن لم يكن
لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما ضى فيه من الاثر[67]
ذ. صيغة
التعزية
يقول في تعزية
المسلم بالمسلم اعظم الله اجرك واحسن عزاك وغفر لميتك.
يقول في تعزية المسلم بالكافر: اعظم
الله أجرك واخلف عليك أو جبر الله مصيبتك والهمك الصبر وما اشبه ذلك.
يقول في تعزية الكافر بالمسلم: غفر
الله لميتك واحسن عزاك.[68] يقول
فى التعزية الكافر بالكافر : اخلف الله عليك ولا نقص عددك[69]
وأما قول المذكور في تعزية المسلم كذا
وفى تعزية الكافر كذا فهكذا قاله أصحابنا وحاصله الجمع بين الدعاء للميت والمعزى
به والمشهور تقديم الدعاء للمعزى كما ذكره المصنف أعظم الله أجرك وأحسن عزاك وغفر
لميتك وحكى السرخسى فيه ثلاثة أوجه (أحدها) هذا قال وهو قول أبى اسحق المروزى قال
لانه المخاطب فبدئ به (والثاني) يقدم الدعاء للميت فيقول غفر الله لميتك واعظم
الله أجرك واحسن عزاك لان الميت أحوج الي الدعاء (والثالث) يتخير فيقدم من شاء قال
اصحابنا رحمهم الله وقوله في الكافر ولا نقص عددك لتكثر الجزية المأخوذة منهم ممن
صرح بهذا الشيخ أبو حامد والقاضى أبو الطيب والمحاملي وأبو علي البندنيجى والسرخسي
والبغوى وصاحبا العدة والبيان والرافعي وآخرون وهو مشكل لانه دعاء ببقاء الكافر
ودوام كفره فالمختار تركه والله اعلم.[70]
ويقال في تعزية المسلم بالمسلم :
أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك أَيْ جَعَلَهُ عَظِيمًا ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَك أَيْ
جَعَلَهُ حَسَنًا ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك ، ويقال في تعزيته بالكافر ، الذمي :
أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك وَصَبَّرَك وَأَخْلَفَ عَلَيْك أَوْ جَبَرَ مُصِيبَتَك
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، ويقال في تعزية الكافر بالمسلم : غَفَرَ اللَّهُ لِمَيِّتِك
وَأَحْسَن عَزَاءَك ، أما الكافر غير المحترم من حربي ومرتد كما بحثه الأذرعي فلا
يعزى وهل هو حرام أو مكروه ؟ الظاهر في المهمات الأول ، ومقتضى كلام الشيخ أبي حامد الثاني وهو الظاهر هذا
إن لم يرج إسلامه ، فإن رجي استحب كما يؤخذ من كلام السبكي ، وأما تعزية الكافر بالكافر
فهي غير مندوبة كما اقتضاه كلام الشرح والروضة بل هي جائزة إن لم يرج إسلامه ،
وصيغتها : أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك وَلَا نَقَصَ عَدَدُك لأن ذلك ينفعنا في الدنيا
بكثرة الجزية وفي الآخرة بالفداء من النار.
فيقال فيها: أعظم الله أجرك، وأحسن
عزاءك، وغفر لميتك، وجبر معصيتك، أو أخلف عليك، أو نحو ذلك. وهذا في تعزية المسلم
بالمسلم. وأما تعزية المسلم بالكافر فلا يقال فيها: وغفر لميتك، لان الله لا يغفر
الكفر.[71]
قال النووى في المجموع : وهو مشكل لأنه
دعاء بدوام الكفر فالمختار تركه ، ومنعه ابن النقيب بأنه ليس فيه ما يقتضي البقاء على
الكفر ولا يحتاج إلى تأويله بتكثير الجزية[72]
الباب الثالث
الخاتمة
الإختتام
التعزية الحمل على الصبر بالوعد بالأجر
والتحذير عن الوزر بالجزع و أن يدعو عبارة أصله والدعاء للميت والمصاب, وهي عامة
لأهل المصاب أعنى كبيرهم وصغيرهم الا الشباب. وهي سنة من أضل الدين من قبل دفن
الميت الى ثلاثة أيام بعد دفنه, حصلت التعزية مرة فتكره بعد ثلاثة وإكرار مرة
أخرى.
الجلوس للتعزية مكروه ولا فرق بين
الرجال والنساء كما فى أصل السنة. وأما صنع الطعام لأهل الميت سنة كما فى الحديث,
وصنع الطعام لغيرهم الذين يعزونهم مكروه منكر بل حرام إن كان ذلك من مال محجور
عليه أعنى مال اليتامى أو كان على الميت الدين, ينبغى تركها للإحتياط ومنعنا
الحديث من ذلك الأفعال. يجوز البكاء على الميت ولكن لا تجوز النياحة.
الإقتراح
نرى الآن كم من الناس لا يفهمون عن
التعزية جيدا, ولا يعملون كما نجد فى السنة سواء كان فى القرآن أو فى كتاب الحديث.
وبخروج هذه المقالة ينصح المؤلف لكل القريئ لينظروا الى دليل النقل ودليل الإجتهاد
عما يتعلق بالتعزية, حتى لا نجد فى يومنا هذ من يخالف السنة فى التعزية وما يتعلق
بها فى أعمالهم.
المراجع
1.
روضة الطالبين, الجزء الاول
2.
الإمام الشفعي, الأم, الجزء الاول
3.
اسماعيل المزني, مختصر المزني
4.
عبد الكريم الرفعي, فتح العزيز – شرح الوجيز
5.
محي الدين النووي. المجموع
6.
أبو يحيى زكريا الانصارى, أسنى المطالب
7.
ابو يحيى زكريا الانصارى, شرح البهجة الوردية
8.
ابن الحجر الهيتمى, تحفة المحتاج فى شرح المنهاخ
9.
محمد الخطيب الشربيني , مغنى المحتاج الى معرفة ألفاط المنهاج
10. محي
الدين النووى, نهاية
المحتاج الى شرح المنهاج
11.
أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي, حاشية الجمل
12. عثمان ابن العلامة الشيخ سليمان السويفي
الشافعي"على شرح الخطيب على أبي شجاع بخط شيخنا
العلامة الشيخ سليمان البجيرمي" حاشية البجيرمي على
الخطيب
13.
إمام تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي, كفاية الأخيار في
حل غاية
الإختصار
14.
منهاج الطالبين, حاشيتا قليوبي- وعميرة
15.
حاشية قليوبي- وعميرة فى شرح المنهاج
16.
سيد سابق, فقه السنة
17.
الفقه على المذاهب الأربعة
18
نيل الأوتا. محمد بن علي بن محمد الشوكاني
19.
أسامة بن الزهراء, الموسوعة الفقهية
20.
محمد بن صالح العثيمين, قسم
الفقه
21. عبد الرحمن بن محمد بن قاسم, كتب
الفقه
22. ابن السيد محمد شطا الدمياطى, إعانة
الطالبين فى شرح فتح المعين
23. ابن الحجر, فتح البارى لصحيح
البخارى
24. حاشية السندى على ابن ماجه
25. الترمذى, سنن الترمذى
26. تحفة الأحوذى على الترمذى فى شرح
سنن الترمذى
سجلات
Tidak ada komentar:
Posting Komentar